في خطابه بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لاستقلال إريتريا، خرج وئيسها الأوحد أسياس أفورقي عن العرف الدبلوماسي لاحتفالات السيادة الوطنية، ليتناول الشأن الإثيوبي بإسهاب غير مسبوق.
فحديثه تحليل سياسي يكشف عن خيبته استراتيجيته التي تهدف إلى تفكيك إثيوبيا من الداخل، عبر تأجيج تناقضاتها، والتشكيك في نظامها، وتحميل مكوناتها القومية مسؤولية الأزمة،
وفي واقع الأمر هذا ديدن نظام اسمرا منذ تأسيسه ، فهو يدفن رأسه في الرمال هربا من استحقاقات ووعود الاستقلال والتنمية إلى تحويل دور أسمرة لمعول هدم.
وكعادته كرر أفورقي اتهاماته لإثيوبيا بأنها كانت لعقود طويلة أداة بيد القوى الكبرى، متهمًا الولايات المتحدة والدول الغربية باستخدام أديس أبابا كمنصة لتنفيذ أجنداتها الجيوسياسية في القرن الأفريقي، سواء في الحقبة الاستعمارية أو خلال الحرب الباردة.
و هذا التوصيف النمطي لاثيوبيا من قبل اسياس ونخب ارتريا التي تشركه الخطاب يتجاهل حقيقة أن ارتريا ونظامها السياسي الكاتم على انفاس شعبها هو نفسه نتيجة مباشرة لانتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي.
حيث تحالف مع ذات الأطراف لتوصله للحكم، دون أية رؤية تنموية أو استراتيجية لمستقلة لبلده، بل ظل حبيس منطق المناورة السياسية والتموضع الانتهازي، لا البناء المستدام.
فيدرالية إثنية خير من دكتاتورية عمياء
هاجم أفورقي وكالمعتاد النظام السياسي والدستور الإثيوبي القائم على الفيدرالية الاثنية، واعتبره وصفة جاهزة للانقسام والانهيار، معتبرا أن منح القوميات حق تقرير المصير – كما يقره الدستور الإثيوبي – هو سبب التصدعات السياسية والاجتماعية التي تمر بها البلاد حسب تصوره.
إثيوبيا بتنوعها العرقي والثقافي واللغوي، تحتاج إلى آليات حكم تضمن تمثيلًا حقيقيًا لمكوناتها، ولو تطلب الأمر إعادة النظر في صيغة الفيدرالية، فالحل ليس في دكتاتورية اسياس بل في إصلاح توافقي يحفظ وحدة الدولة وعدالة التمثيل.
ومع ضرورة النقد البناء فإن فدرالية اثيوبيا تمكنت من استيعاب التنوع وتوفير قدر كبيرا من استقرار سياسي ونمو اقتصادي مشهود له من العدو قبل الصديق.
و السؤال الملح الذي ظل شعب ارتريا ينتطر الإجابه عليه من اسياس أفورقي،مذا قدم نظام ارتريا لاهلها؟
من الأمهرا الى الأورومو … وعقود من تأليب الشعوب
وأكثر ما يلفت الانتباه في خطاب أفورقي هو هجومه المباشر على ما أسماه “الوكيل السياسي الجديد” في إثيوبيا، في إشارة إلى النخبة الأورومية.
فقد اتهم هذه النخبة بتبني أيديولوجيا إقصائية تهدد وحدة الدولة، وربط بينها وبين تصعيد ملفات مثل قضية النيل، والحديث عن المنافذ البحرية، والتوترات القومية بين المكونات الكوشية والسامية.
هذه اللغة التي تتماهى مع شخصية اسياس ومحاولاته المزمنة واليائسة لضرب شعوب اثيوبيا ببعضها باستغلال التنافس بين مكوناتها الداخلية لتفكيك الدولة من الداخل وبما يخدم الأجندة الإريترية الساعية دائمًا لإضعاف المركز الإثيوبي.
وفي ذات السياق تناول اسياس إقليم العفر، وادعى ما وصفه باستغلال الأرض والشعب في تنفيذ أجندات إقليمية، لكنه تجاهل أن النظام الإريتري نفسه يمارس سياسة توسعية في تلك المنطقة، مستغلًا موقعها الحساس بين إثيوبيا وجيبوتي، لتعزيز وجوده العسكري والسياسي، في سياق يهدد استقرار الحدود ويغذي النزاعات.
أسير الماضي
خطاب أفورقي لا يحمل أي نية للإصلاح أو التعاون، بل يعكس أجندة تقويضية صريحة. فهو لا يتحدث عن إثيوبيا بدافع الحرص، بل بدافع الطموح لوراثة دور إقليمي أكبر على أنقاض جار يتمنى أن يراه مأزوما ويسعى له.
وبدل أن يُسهم في تهدئة الملفات الساخنة كالمياه والحدود، يعمد إلى تأجيجها وتوظيفها في سياق صراع نفوذ وحرب الوكالة، ويبدو أن أسمرة تطمح فيه إلى أكثر من حجمها الطبيعي، متناسية أن الاستقرار لا يبنى بالخطابات، بل بالسياسات الواقعية، والتعاون الإقليمي الصادق.
وحديث أسياس أفورقي الأخير لم يكن خطاب احتفال بعيد الاستقلال، ويعبر عن غياب أدنى مستوى من رؤية تنموية، ويؤكد على استمرار عقلية أمنية تسعى تلعب بالمنطقة من خلف الستار، عبر التحريض، والتدخل، والضغط المستتر.
وبينما تسير إثيوبيا في طريق التنمية والإصلاح وادارة التنوع رغم الصعوبات، وتدعو للتعاون والتكامل الإقليمي، يبدو أن ساكن أسمرا لا يزال أسير الماضي، مصر على ابقاء شعب ارتريا في فزاعة مصطنعة من الغرب البعيد والجوار القريب.