نيلوتيك بوست

الحالة الجهاديّة في إثيوبيا… نظرة أولية

وتحولات الخارطة المذهبية الإسلامية في إثيوبيا تجعل من إمكانية توظيف الحالة الجهاديّة احتمالا قائما

alt=

مدخل

هناك مبدآن يترددان في القرآن الكريم، لهما نظائر في الفكر السياسي المعاصر، لكنهما لم يحظيا في التراث الإسلامي بتأطير تنظيري، يجعل منهما بناء نظريّا متماسكا، له تطبيقاته في الممارسة السياسة.

المبدأ الأول : عدم الرضا بالظلم ” والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ” ، ” ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل “.

ونظير هذا من مفاهيم الفكر السياسي المعاصر مفهوم ( الحقوق والحريات ).

المبدأ الثاني : طاعة ولاة الأمر ” أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم “.

ويقابله من المفاهيم المعاصرة ( حكم القانون ) Rule of law. وقد كان للطوائف والفرق الإسلامية مواقف، لم تراع التوازن المطلوب تجاه هذين المبدأين، والتوصّل إلى صيغة تضمن استقرار الدولة، مع ضمان عدم تغوّلها بما يؤدّي إلى التجني على حقوق الأفراد وحرّياتهم، كما هو الشأن مع الفكر السياسي المعاصر في مبدأ ( توزيع السلطات ).

فطائفة أخذت بمبدأ ( عدم الرضا بالظلم ) والثورة عليه، واعتبرت ذلك دينا تدين الله به، وتسبّبت في حالة من عدم الاستقرار للمجتمعات المسلمة على مدى تاريخها.

وطائفة أخرى لاحظت ما يترتب على حوادث التمرّد على الحكام من مآسي وكوارث وويلات، فاعتبرتها من الفتن التي دعا الشرع إلى اعتزالها وتجنّبها، وترك الأمر لأصحابه، وعدم منازعتهم عليه.

وتلك هي التي أخذت بمبدأ ( طاعة وليّ الأمر ) ، واتخذت منه دينا تدين الله به ، وعُرفت في التراث بـ ( المرجئة ).

الأيديولوجيات الإسلامية … بين الجمود والاختراق

ثمّ جاءت التيارات الإسلامية المعاصرة ، ونسجت على منوال أسلافها، مع سكّ تسميات جديدة لكلا الطائفتين، قام بها الدارسون ( السلفية الجهاديّة ، والسلفية الجاميّة ).

وما يميّز المرحلة المعاصرة عما سبقها، هو التدخل السياسي الأمني الواعي، من أجل استثمار وتوظيف الإمكانات الأيديولوجية لكلا المدرستين لأهداف مختلفة، بخلاف المرحلة التراثية، فإنّ تدخل السلطة السياسية حينها إن وجد فإنّه كان عفويّا مرتجلا.

فالأنظمة المتسلّطة تستنجد إلى مدرسة ( طاعة وليّ الأمر ) ، بينما القوى الاستعمارية التي ترى مصالحها في ضرب استقرار الدول الخارجة عن فلكها تلجأ إلى توظيف مدرسة ( عدم الرضا بالظلم ).

القابليّة للتوظيف السياسي من هذا الجانب أو ذاك ليس حكرا على المسلمين. ففي حالة توظيف آلة التعبئة وأساليب الإثارة والتحريض المناسبة، فإنّ أيّة منظومة أيديولوجية لديها قابلية أداء الدور.

والايدلوجية الشيوعية المنكرة للغيب مثال على ذلك. فقد خرج منها مشاهير المناضلين الأمميّين الذين دفعوا حياتهم ثمنا لقناعاتهم الشيوعية ( تشي غيفارا ) نموذجا.

والملاحظ في الحالة الإسلاميّة المعاصرة أنّ كلا المدرستين اللتين يتمّ توظيفهما لأهداف سياسية متناقضة، ينتميان إلى الخلفيّة العقديّة ذاتها فكلتاهما سلفيّتان ، وإن كانت إحداهما توصف بأنّها ( جهاديّة ) والأخرى بـ ( جاميّة / مدخليّة ).

وهاهنا سؤال : هل يتيح هذا التشابه في الخلفيّة العقديّة سهولة تنقّل الأفراد بين المدرستين ؟!

على المستوى النظري هذا وارد جدا، لكنّه يحتاج إلى دراسة واقع التيارات على الأرض لتأكيد ذلك الاحتمال.

الواقع الإثيوبي … بين امكانية التوظيف وخصوصية الواقع

وبالتعريج على الواقع الإثيوبي : هل يمكن أن تلجأ القوى المتربّصة إلى توظيف إمكانيّة الحالة الجهاديّة لضرب استقرار إثيوبيا بعد أن تستنفد أوراقها القوميّة ؟!

النُّذر الأولى لما نشهده في الفترة الأخيرة من استهداف المسلمين في المناطق ذات الأغلبية النصرانية، واستهداف النّصارى في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، ثمّ بعد ذلك نفير الشباب المجاهدين يشي بأنّها مقدّمات تحضيريّة، لإيجاد صراع ذي صبغة دينيّة، يخلق اصطفافات جديدة بين أهل المنطقة.

ولا يبعد أن يكون هذا الهاجس هو الذي دفع الحكومة الإثيوبية في أواخر عهد ملّس إلى تبنّي ودعم التيّار الصوفيّ لمواجهة التيّار السلفي الإخواني الذي يمكن أن يتخذ شكلا عنيفا إذا تهيّأت له الظروف المؤاتية ، ويجد لنفسه ظهيرا إقليميّا متمثّلا في حركة الشباب الإسلامي التي تتمدّدت في الفراغ السياسي الذي نتج عن انهيار الدولة الصوماليّة.

فالامتدادات القبليّة والتشابك الثقافي بين جانبي الحدود يجعل تسرّب الأفراد والأفكار وزرع الخلايا النّائمة أمرا شبه حتميّ .

وبما أنّ التيار الصوفيّ المحليّ غارق في التقليديّة وليس لديه القدرة أو الخبرة التنظيمية التي تمكّنه من الوقوف في وجه التيار السلفي والإخواني الآخذ بالأساليب العصرية في العمل التنظمي والدعوي فإنّ الحكومة الإثيوبية لجأت إلى استقدام جماعة صوفيّة لديها القدرة على العمل المنظّم وتشترك مع التيار المحلّي في خلفيّته العقائدية.

ولا عبرة بالتنابز بالألقاب الذي يتبادله الطرفان من أنّ كلّ منهما هو الذي يمثل الإسلام الصحيح، وأنّ الطرف الآخر دخيل، وصنيعة استعماريّة.

فالأحباش كما يعلنون عن أنفسهم جماعة صوفية أشعرية، وشيخهم عبد الله الهرري قد يكون له اختياراته الخاصّة من بين الآراء التي تضمّنتها المدرسة الأشعرية والفقه الشافعي، لكنّه لا يخرج عن دائرة المدرسة الأشعرية كما يذكر ذلك العارفون بالمذهب الأشعري.

في بدايات المرحلة التي تلت سقوط نظام ( الدرغ ) ساد انفتاح أتاح للتيارات الفكريّة أن تدخل وتتحرك بحريّة في الساحة الإثيوبية، فانتشرت العقيدة البروتستانتية الخمسينية ( البينتي كوستال ) في الوسط النصراني والوثني في الغرب والجنوب.

كما وجدت التيارات الإسلامية الناشطة في العالم العربي فرصتها في الذيوع والانتشار على شكل جمعيّات ومنظمّات دعويّة وتعليمية، وابتعاث الشباب المسلم الراغب في التعلّم في العالم العربي والإسلامي ليعود محمّلا بأفكار الجهات التي احتضنته.

لكنّها كانت كذلك عودة مصحوبة بالصراعات التي تعجّ بها ساحة التيارات الإسلامية ( سلفي / صوفي ) ( سلفي / إخواني ) .. .. ومن لطف الله أنه لم يكن هناك وجود شيعي محلّيّ معتبر.

هذا التحوّل في واقع الخارطة المذهبية الإسلامية ( انحسار التيار التقليدي في مقابل انتشار التيارات الجديدة ) يجعل من إمكانية توظيف الحالة الجهاديّة في إثيوبيا احتمالا قائما، فاستثارة العاطفة الدينية ليس أصعب من استثارة العاطفة القوميّة.

لكن هذا السيناريو يبدو، في نظري، غير مرجّح حسب معطيات الواقع الحالي، حيث بدأت تظهر في البلد معالم التعافي من أعراض فوضى الانتقال السياسي، واستعادة المؤسسة الأمنيّة والعسكرية شيئا من قدراتها وفاعليّتها رغم صعوبة التحدّيات.

Exit mobile version