تُعد قضية جنوب السودان واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في منطقة القرن الأفريقي وشرق إفريقيا، حيث تشابكت فيها الصراعات الداخلية مع الاستقطاب الإقليمي والدولي، مما جعلها نقطة جذب لتدخلات متعددة الأطراف.
انفصلت جنوب السودان عن السودان في 9 يوليو 2011 بعد استفتاء شعبي أنهى عقودًا من الحرب الأهلية، لكن الاستقلال لم يجلب الاستقرار، بل أدى إلى اندلاع نزاعات داخلية جديدة تفاقمت بفعل عوامل إقليمية ودولية.
في هذا المقال، نستعرض دور كل من مصر، السودان، إريتريا، إثيوبيا، يوغندا، الولايات المتحدة، أوروبا، والإمارات العربية المتحدة، مع التركيز على الحقائق التاريخية والسياسية الدقيقة، وتوسع خاص في دور مصر الداعم لاستقرار جنوب السودان.
مصر: الأمن المائي والاستقرار الإقليمي
اعتبرت مصر السودا و جنوب السودان قبل الانفصال- حديقتها الخلفية وامتدادًا استراتيجيًا لأمنها القومي، لاعتمادها شبه الكلي على نهر النيل كشريان حياة.
ويساهم جنوب السودان بنحو ٢٨٪ من حصة مصر المائية عبر النيل الأبيض، مما يجعل استقرارها ليس مجرد خيار دبلوماسي، بل ضرورة وجودية للقاهرة.
قبل انفصال الجنوب، دعت مصر بقوة إلى “وحدة وادي النيل” علنا، مع تعاون خفي مع حركة تحرير السودان بحسب مصادر سودانية مطلعة.
بعد الاستقلال في ٢٠١١، تحول تركيزها نحو بناء علاقة تعاونية مع جوبا لضمان عدم تهديد مصالحها المائية، مع دعم استقرار الدولة الناشئة كوسيلة لتحقيق ذلك.
خلال الحرب الأهلية في جنوب السودان (٢٠١٣-٢٠١٨)، حافظت مصر على موقف دبلوماسي حذر، داعمة لجهود السلام التي قادها الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، و تجنبت التدخل العسكري المباشر، مفضلة العمل من خلال القنوات السياسية والتنموية.
فعلى سبيل المثال، قدمت مصر مساعدات تنموية ملموسة لجنوب السودان، مثل إنشاء محطات مياه الشرب ودعم مشروعات الري الزراعي، بهدف تعزيز الاستقرار الاقتصادي الذي ينعكس إيجابيًا على إدارة الموارد المائية.
في ٢٠١٧، أعلنت القاهرة مبادرة لتدريب كوادر جنوبية السودان في مجالات الزراعة وإدارة المياه، وهي خطوة تهدف إلى بناء قدرات الدولة الجنوبية وتعزيز التعاون الثنائي.
وسياسيًا، استضافت مصر عدة جولات من المحادثات بين قادة جنوب السودان والسودان لحل القضايا العالقة مثل ترسيم الحدود وإدارة النفط، كما سعت للتقريب بين سلفا كير ورياك مشار خلال أزمة ٢٠١٣-٢٠١٨.
وفي ٢٠٢١، زار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جوبا لتأكيد دعم مصر لاتفاق السلام المنشط (R-ARCSS) الذي وقّع في ٢٠١ بين الأطراف متصارعة في جنوب السودان، مع التأكيد على أهمية استقرار جنوب السودان لأمن المنطقة.
كما تعاونت مصر مع السودان في إطار “مبادرة دول جوار جنوب السودان” لدعم عملية السلام، مما يعكس رؤيتها الاستراتيجية للجنوب كجزء لا يتجزأ من استقرار وادي النيل.
هذه الجهود تؤكد أن مصر ترى في استقرار جنوب السودان ضمانة لأمنها المائي والإقليمي، ورغبة في ضمان موقف سياسي داعم لمصر في مياه النيل، خاصة في ظل التوترات مع إثيوبيا حول سد النهضة.
دول الجوار وتداخل المصالح
السودان هو الطرف الأكثر تأثرًا بقضية جنوب السودان، إذ كان الجنوب جزءًا منه حتى الانفصال. الحرب الأهلية الثانية (١٩٨٣-٢٠٠٥) بين الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان أسفرت عن اتفاق السلام الشامل، لكن الانفصال ترك قضايا عالقة مثل ترسيم الحدود وتوزيع إيرادات النفط.
مناطق مثل أبيي لا تزال محل نزاع بعد استقلال الجنوب، وأثرت الحرب الأهلية الداخلية في ٢٠١٣ على السودان اقتصاديًا وأمنيًا، مع توقف ضخ النفط وتدفق اللاجئين.
سياسيًا، حاولت السودان الحفاظ على حياد نسبي تجاه الفصائل المتصارعة، مع التركيز على حماية حدودها.
إريتريا من جانبها، ومن خلال سياستها التقليدية المناهضة لإثيوبيا لعبت دورًا غير مباشرة خلال الحرب الأهلية الثانية في السودان ودعمت الحركة الشعبية لتحرير السودان لوجستيًا لإضعاف الخرطوم.
وبعد استقلال جنوب السودان، حافظت على علاقات ودية مع جوبا، لكن دورها تضاءل مع اندلاع الصراع الداخلي في ٢٠١٣، مركزة على موازنة القوى ضد إثيوبيا.
إثيوبيا: القوة الإقليمية والنفوذ المباشر
تاريخيا دعمت إثيوبيا الحركة الشعبية ضد الخرطوم ردا على دعم السودان للحركات المسلحة الإثيوبية المعارضة في ثمانينات القرن الماضي، كما واستضافت اثيوبيا مفاوضات السلام بعد الاستقلال.
خلال الحرب الأهلية (٢٠١٣-٢٠١٨)، رعت جهود السلام ودعمت جهود المصالحة مع أنها متهمة بدعم رياك مشار، كنا وساهمت أديس أبابا في قوات حفظ السلام. وضمن استراتيجتها الجديدة القائمة على تصفير المشاكل مع جيرانها تبذل جهودا للمصالحة، ودعم مشاريع التنمية والبنية التحتية.
يوغندا دعمت سلفا كير عسكريًا في 2013، مرسلة قواتها لمواجهة مشار، بدوافع اقتصادية (سوق الجنوب) وأمنية (استقرار الحدود). استضافت اللاجئين وسعت لتعزيز نفوذها الإقليمي، لكن تدخلها أثار جدلاً.
النفوذ الدولي وتشابك المصالح
تاريخيا الولايات المتحدة دعمت وعملت على استقلال الجنوب ماليًا وسياسيًا، لكنها فرضت عقوبات بعد الحرب الأهلية في 2013، مع تراجع اهتمامها لاحقًا بسبب أولويات عالمية أخرى.
أما الاتحاد الأوروبي، خاصة النرويج وبريطانيا، دعم السلام والاستقلال، مقدمًا مساعدات إنسانية كبيرة، لكن غياب استراتيجية موحدة حد من تأثيره.
قضية جنوب السودان تُظهر تحول الصراعات الداخلية إلى أزمة متعددة الأبعاد. فمصر تدعم الاستقرار بدوافع مائية واستراتيجية، وتستغل علاقتها مع جوبا ضد السودان وإثيوبيا حريصة على الوقوف في مساحة متساوية بين طرفي النزاع، بيننا يوغندا تدعم سلفاكير وحلفاءه،
أما السودان الظرف الراهن فهو منشغل بوضعه ما يشغله، وإريتريا لديها تنسيق مع بعض الأطراف لمصالها. والقوة الدولية والأقليمية الأخرى لا ترى في الأزمة تلك الخطورة التي تستحق الاستعجال مقارنة بملفات ساخنة. والتنسيق بين هذه الأطراف يبقى بعيد المنال، مما يعيق بناء دولة مستقرة.