مسألة ما يسمى بالبنوك والنوافذ الإسلامية تدور حولها جدليات كبيرة، وشخصيا فأنا من أوائل الذين انشغلوا بهذا المجال في إثيوبيا، وبعد انشغال طويل الأمد وانجازات مهمة توصلت إلى قناعات تامة ليس هنا مجال سردها.
وما دفعني للكتابة في هذا الأمر اليوم هو التناقض الواضح والجلي بين الخطاب الديني والممارسة العملية لرجال الدين المسلمين في إثيوبيا.
فقبل أيام قليلة استمعت لفتوى لأحد مشايخ الدين في أديس أبابا على ” التيك توك” يحرم فيها “تحريما مغلظا” تأجير المكاتب والمباني للبنوك التقليدية، أي تلك التي تعمل بنظام الفائدة.
وللأسف، وكعادة فتاوى التحريم التي تعتمد على ” قيل وقال ” ، لم يورد الشيخ دليلا واحد من القرآن على حرمة التعامل مع تلك البنوك.
وبعدها بأيام قليلة قام نفس الشيخ بتقديم موعظة دينية للعاملين في إحدى البنوك الإسلامية التي تأسست مؤخرا حول أضرار ” الربا”.
تناقضالقول والعمل
ما أذهلني هو أن هذا الشيخ يعمل مستشارا شرعيا في قسم النوافذ الاسلامية لدى إحدى البنوك التقليدية التي يسمونها بالربوية، بل وهناك كلام يدور حول الامتداد الديني والفكري للبنك الذي يتعاون معه الشيخ.
وعلى العموم فإن البنوك التقليدية تقدم مكافآت مالية ورواتب سخية للشيوخ الذين يعملون لديها لاقناع الجماهير بأن هذه النوافذ “إسلامية”.
وتعمل مجموعة كبيرة من الشيوخ وبعض المثقفين الإسلاميين مع البنوك التقليدية ويتمثل دورهم الأساسي في الظهور في المناسبات العامة وخلال حملات التسويق لاقناع عامة المسلمين بأن “نوافذ” تلك البنوك إسلامية وحلال.
وهكذا يطلقون العنان لخطاب ديني موغل في التناقض مع العمل، يحرم أبواب البنوك ويحلل نوافذها، وهو ما أدخل عامة المسلمين في حيرة كبيرة، وبدء الرأي العام الآن يستقر على أن فكرة البنوك الإسلامية في مجملها متناقضة، ولا تختلف في الممارسة الواقعية عن البنوك التقليدية التي يصفها الخطاب الديني ب “ربوية “
ومع دخول البنوك التي تعمل بصيغ التمويل المسماة بالإسلامية إلى القطاع المالي في إثيوبيا، ازدادت حاجة البنوك التقليدية، الحكومية منها و الخاصة، لخدمات الشيوخ والمؤثرين من النشطاء الإسلاميين للحفاظ على عملائهم من عامة المسلمين.
وسؤالي مثل سؤال ملايين المسلمين الحيارى من تناقض الخطاب الإسلامي وممارسات رجال الدين.
- إن كنتم تحرمون علىالعامة التعاملمع البنوكالتقليديةحتىبتأجير مبانيهم بحجةأنها ” ربوية” فمنأحللكمأكلرواتبهاومكافآتها؟
- وإذا كان أصل رؤس أموال هذه البنوك حراما، حسب التعاطي الفقهي الذي تحفظونه عن ظهر قلب، فكيف تحلون نوافذها المسماة بالإسلامية وهي قائمة على رأس مال البنك الأساسي.
- ثم ما دوركم الشرعي في تلك البنوك، وأنتم لا تمتلكون صلاحيات إدارية وهيكلية تسمح لكم بالإشراف على معاملاتها؟ وعلى افتراض ان إدارة البنوك تفضلت عليكم بتلك الصلاحيات، فهل لديكم الأهلية العلمية بالنظام المالي المحلي والعالمي حتى تشرفون عليه.
هذا التناقض وأمثاله الذي حول الدين إلى “أدات تسويقية” هو الذي نسميه “التجارة بالدين” .
دعوة لمراجعة فتاوى ” الربا”
فإذا كان تأجير المكاتب والمباني للبنوك وعقود التمويلات الاستثمارية والتجارية، وغيرها من التعاملات البنوك التقليدية حراما، فبالتأكيد فأنتم أيضا تأكلون الحرام الربوي بعملكم لدى تلك البنوك.
وإذا كان الأمر غير ذلك فاتركوا مخادعة العامة واتركوا التحريض على الأنظمة المالية العالمية بحجة الربا، وأعيدوا النظر والبحث في الأمور بواقع اليوم.
فالفتاوى والخطاب الديني البالي الذي عفى عليه الزمن أغلق على المسلمين جميع مناحي الحياة ومساراتها وحولها إلى الحرام، وحول المجتمعات المسلمة إلى كتل بشرية تتحكم فيها فتاوى تبحث عن حيل إجرائية وهمية للخروج من ضغط الواقع، ولا تتحرك لتحرير العقل المسلم.
فمثلا تحريم التعامل مع البنوك التقليدية حرَم عشرات الآف من المسلمين في إثيوبيا، بحجة حرمة دفع الفوائد للحكومة، من الاشتراك في المساكن التي توفرها الحكومة بأسعار رمزية مقارنة بسعر السوق،.
واليوم، وبعد مرور أكثر من عقد على بدء مشروع الإسكان الوطني، حصلت المجموعات الأخرى من المواطنين على مئات الآلاف من المساكن، والمسلمون ينتظرون أن تمطر عليهم الفتاوى مساكن فاخرة.
والمضحك المبكي هو أن الخطاب الديني المتشبع بنظرية التآمر يلوم غير المسلمين والحكومة والكنيسة لتخلف المسلمين عن مناحي الحياة.
ياقومنا… أفيقوا ولنبحث عن الخلل في أفكارنا والفتاوى التي كبلت المجتمعات ومنعتها من الانطلاق في مسيرة الحياة.