بعد جمود استمر لأشهر، التقى وزراء خارجية وري إثيوبيا ومصر والسودان في كينشاسا بين ٣-٥ إبريل، وجهاً لوجه، لتجاوز حالة التصعيد والاحتقان، وتحضيراً لاستئناف التفاوض. غير أن فكرة التوافق والتنازل انهارت في سلم الأولويات بعد أن أضحى سد النهضة قضية محورية تصاعدت الرهانات الإيجابية والسلبية عليها.
وما كثرة العقبات التي اعترضت تسوية الأزمة، وفي كل مرة تصاب المفاوضات بحالة من الجمود و انسداد الأفق، تمتد لها يد الحياة من هنا أو هناك، وعندما تتصاعد المناوشات بشأنها إلى حافة الهاوية تجد من ينزلها على الأرض بهدوء، لأن الدول الثلاث لا ترغب عملياً في الوصول إلى نقطة الصدام أو خط اللاعودة والذي سيكون مكلفا للجميع.
لم يصمد اجتماع كينشاسا أو ما أطلقت عليه الإعلام العربي “لقاء الفرصة الاخيرة” طويلاً، وتصاعدت نبرة الاتهامات المتبادلة بين معسكرين: مصر والسودان من جهة، و إثيوبيا من جهة أخرى.
حالة الانقسامات والتنافر بين المعسكرين اشتدت عندما طرح مقترح الوساطة الرباعية الدولية للنقاش، وطلب تأجيل تعبئة السد.
وسعت الكونغو جاهدة التوفيق بين المعسكرين لكن دون جدوى.
تنسيق المواقف بين السودان و مصر
نجحت مصر في إعادة صياغة منظومة علاقاتها مع السودان، وشهدت العلاقات بينهما قفزة نوعية، عكسه تبادل زيارات رسمية على أعلى المستويات، لتنسيق مواقف مناهضة تجاه إثيوبيا، سياسياً وإعلامياً، وتعزز ذلك بإجراء مناورات عسكرية مشتركة.
وهذا التقارب المصري إنما هو ذر الرماد في عيون الخرطوم لعدم اثارة ملف الخلاف الحدودي المسكوت عليه في مثلث “حلايب وشلاتين”.
ورأينا كيف أن مصر تتبنى موقفاً ومقترحات، وتعلن الخرطوم تأييدها بلا تردد، وأصبح ذلك واضحا في اجتماع كينشاسا. التحول المفاجئ لموقف السودان لم يكن غريباً، بحسب مراقبين، على ضوء إعاد السودان صياغة علاقته مع مصر.
مع نجاح مصر في إعادة السودان إلى صفها، هناك شعور لدى القاهرة بقدرتها على تطويق إثيوبيا، وتأليب الرأي العام العربي ضدها
وهناك شعور بالارتياح لدى القاهرة لأنها ضمنت اصطفاف السودان الى جانبها لمحاصرة اثيوبيا من كل زاوية، وتأليب العالم العربي ضدها.
ويبدو أن أطروحات أديس أبابا أثارت جدلاً وامتعاضاً لدى القاهرة والخرطوم، عندما أعلنت إثيوبيا أن عملية التعبئة جزء من بناء السد وتشغيله، وليست مرتبطة بالمفاوضات، واعتبرت تأجيلها خط احمر وسيكلفها مليار دولار. ورفضت التوقيع على أي اتفاق يقيد استفادتها من مياه النيل مستقبلا، وتمسكت باعادة توزيع المياه في المفاوضات، ورفضت اتفاقيتي ١٩٢٩ و١٩٥٩ باعتبار أنها لم تكن طرفاً فيها.
حملات إعلامية لشيطنة إثيوبيا
وتعتمد الاستراتيجية المصرية -السودانية في التعامل مع ملف السد على ثلاثة محاور هي: الدبلوماسية ، الضغط و التهديد.
ومع عدم نجاح الاعتماد على الدبلوماسية الناعمة والخشنة والشخصية وحاجتها الى نفس طويل مقابل مضي إثيوبيا نحو التعبئة، لذا لجأت مصر للضغط والتهديد، لإخضاع إثيوبيا لانتزاع تنازلات.
قاومت اثيوبيا وطأة الضغوط من الطرفين بل زادتها اصراراً وثباتاً على موقفها بالمضي قدما في تعبئة السد في موعدها المقرر.
هذا فضلا عن القيام بشن حملات إعلامية تصف إثيوبيا ” بالتعنت، و المراوغة، والمماطلة، والمتنصلة” وتكريس الآلة الإعلامية لرسم صورة سلبية عن إثيوبيا لدى المحيط العربي لدرجة أن ساسة وإعلاميون وكتاب العرب صاروا تأثروا برؤية القاهرة والخرطوم وإلصاق اللوم على إثيوبيا .
عملت مصر على استغلال الإعلام العربي لشن حملات إعلامية لشيطنة إثيوبيا بوصفها ” بالتعنت، و المراوغة، والمماطلة، والمتنصلة” و لرسم صورة سلبية عن إثيوبيا لدى المحيط العربي
التلويح بالخيار العسكري
استبقت مصر والسودان انتهاء اجتماعات كينشاسا، وأعلنتا تحميل إثيوبيا مسؤولية انهيار الجولة، ثم انطلقت الدعوات المصرية للحل العسكري، واللجوء لمجلس الأمن من قبل السودان.
وهي تلويحات ووعود يُطلقها النخب والساسة، ولا يستطيعون الوفاء بها، وتُعَدُّ هذه الحقيقة إحدى البدبهيات في “عالم سياسة الغموض”، ومصر دأبت على قرع طبول الحرب منذ قدم تجاه اثيوبيا.
سيناريو قيام مصر بعمل عسكري مباشر مستبعد كلياً، وتلويح الرئيس السيسي قبل اجتماع كينشاسا وبعده بالخيار العسكري، والمناورات “نسور النيل (1-2) في قاعدة مروى، على بعد بضع كيلومترات من موقع إنشاء السد، إنما يندرج في إطار الحرب النفسية وممارسة أكبر ضغوط ممكنة على إثيوبيا.
وعلى النقيض من مصر تتجنب الخرطوم الحديث عن الخيار العسكري في التعامل مع ملف الأزمة، وتفضل التدويل باللجوء لمجلس الأمن، مما يشير إلى وجود اختلاف بين الطرفين في الخطوات التالية في الأيام المقبلة تحت بند ” كل الخيارات مفتوحة”.
استوعبت إثيوبيا رسالة المناورات العسكرية بين مصر والسودان مؤخراً، وأكدت استعدادها لكل الاحتمالات دفاعاً عن السد وعدم الرجوع من التعبئة مهما كلف الثمن. وأكدت أن لغة التهديد والتخويف لن تثنيها.
مصر تلوح بالخيار العسكري، والسودان يميل لخيار التدويل، مما يدل على عدم اتفاق مصر والسودان على الخطوة التالية
على أن القوى الكبرى قد لا تظل مكتوفة الأيدي، ولن تسمح للدول الثلاث الدخول في حرب مفتوحة، لما لها من تأثيرات اقتصادية وإنسانية باهظة وعدم استقرار على المنطقة بأسرها، وبالتالي على مصالح القوى الدولية.
بين التدويل والتعاون الإقليمي
أما سيناريو اللجوء لمجلس الأمن مجددا، فقد لا يكون مجديا، سيما وأن الاتحاد الإفريقي مازال وسيطا ولم يعلن فشله. كما أن هناك تلويح من بكين وموسكو باستخدام الفيتو لمنع صدور أي قرار ضد إثيوبيا. وسبق وأن عرض ملف السد على المجلس مرتين أحدهما في محاولة لاستسصدار قرار قد يشفي على الأقل غليل القاهرة والخرطوم لكن كل تلك المحاولة باءت بالفشل.
فكل الخيارات التي تتوعد بها مصر والسودان، قد يكون تنفيذها على أرضد الواقع صعبا. لذا فالسيناريو الأقرب والأمثل هو التعاون، لتجاوز حالة التصعيد ومشاركة كل من مصر والسودان في تنمية الموارد المائية في هضبة الحبشة عبر دعم جهود التشجير لمحاربة التصحر وانجراف التربة، وغير ذلك من مشاريع تنمية الموارد المائية.