عندما يتابع المرء هذا التحريض الإعلامي بالتزامن مع التصعيد السياسي والمناورات العسكرية المشتركة والتلويح بالخيار العسكري، إضافة إلى خطاب الإعلام العربي المنحاز لوجهة النظر المصرية لإظهار إثيوبيا كدولة معتدية، فمن البديهي أن يتساءل المرء فيما لو كان سد النهضة هو أول سد في العالم تبنيه دولة المنبع، وعن ما يجعل هذا السد مختلفا عن آلاف السدود حول العالم، والتي لم تتسبب في أزمات بين الدول، كما هو حال سد النهضة الذي تحول إلى أزمة إقليمية بل تكاد تكون دولية.
تتهم مصر والسودان إثيوبيا بالسعي لاحتكار مياه النيل والقيام ببناء السد دون إخطار مسبق. ولكن الحقيقة المطلقة هي أن دولتي المصب تجاهلتا دول المنبع وتقاسمتا المياه فيما بينهما باتفاقية ١٩٥٩ الظالمة، دون تخصيص حصة لدول المنبع عامة، ولإثيوبيا التي تساهم بـ ٨٦ ٪ من مياه النيل خاصة.
عندما أرادت إثيوبيا إنشاء سد النهضة كمشروع تنموي لتوليد الطاقة لإخراج شعبها من الفقر والظلام الدامس، أبلغت مصر والسودان بذلك، وطلبت منهما المساهمة في بنائه، وعرضت عليهما تبادل معلومات التعبئة والتشغيل.
رفضت مصر بشكل قاطع فكرة إنشاء السد آنذاك، معتبرة الأمر خط أحمر، وتجلت في ذ لك نظرتها الاستعلائية تجاه نهر النيل، و عدم اعترافها بحق إثيوبيا التي ينبع النيل من أرضها.
وفي الحقيقة، هي سابقة في العالم أن تتقدم دولة المنبع بمثل هذا العرض وترفضه دولة المصب، ولا يخفى على أحد أن دولة تقدمت بهذا العرض لا يمكن أن تقوم بالتعنت بغية الإضرار بدولتي المصب. ومع الأسف الشديد بسبب السياسات ةالمصرية تجاه النيل التي تعتبر ظالمة وعدم إقرار مصر بحق إثيوبيا واعتبار النيل ملكها الخاص فوتت العرض الإثيوبي المبني على مبدأ التعاون.
في سابقة تاريخية أخطرت إثيوبيا مصر والسودان برغبتها في إقامة سد النهضة لأغراض تنموية، وعرضت عليهما المشاركة بالتمويل، وتبادل معلومات الإدارة والتشغيل، لكن الاستعلاء المصري فوت الفرضة… والصيف ضيعت اللبن
لماذا لم يتم التوصل إلى اتفاق في جولات المفاوضات الممتدة ؟
لم تتوقف إثيوبيا بسبب تهديدات مصر، ووضعت الحجر الأساسي للمشروع في أبريل ٢٠١١، من جانبها اعتبرت مصر أي مشروع تنموي على النيل خط أحمر، و حشدت ثقلها السياسي واستخدمت نفوذها في المؤسسات الدولية لمنع تمويل المشروع. وانطلقت إثيوبيا نحو تنفيذ المشروع بتمويل ذاتي من خزانة الدولة وتمويل شعبي.
قدمت إثيوبيا لمصر والسودان ١٥٣ وثيقة لدراسات وتصميم المشروع، آخذة في الاعتبار مخاوفهما بشأن أمان وسلامة السد، وقبلت مقترحات القاهرة والخرطوم بتعديل تصميم السد، وخسرت نتيجة ذلك مليار وخمسة الف دولار بتكلفة إضافية، وهو ما أقر به وزير الري السوداني الأسبق المهندس عثمان التوم. كما تطوعت لإجراء تقييمات عابرة للحدود للأثر البيئي والاجتماعي للسد، وأنشأت فريق خبراء دولي للتدقيق في المشروع. واتخذت إثيوبيا كل تلك الخطوة لطمأنة الشركاء وإبداء التعاون حسن النية.
وخلال المفاوضات، واصلت إثيوبيا طمأنة دولتي المصب بالموافقة على العديد من طلباتهما بما في ذلك تمديد فترة الملء، من ثلاث سنوات إلى سبع سنوات عملا بمبدأ عدم التسبب بضرر ذي شأن. وهو المبداء الأهم في القانون الدولي للانهار العابرة للحدود، والبند الثالث في إتفاق إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاثة ٢٠١٥
كما وافقت إثيوبيا على الإدارة المشتركة للجفاف، بالتعهد بعدم الملء وتبادل البيانات والمعلومات، وسلامة السدود، وآلية التنسيق، وما إلى ذلك
من المعلوم أن نجاح المفاوضات والوصول إلى اتفاق يرضي الجميع يتطلب إرادة سياسية وتقديم تنازلات من الأطراف المتفاوضة. بينما في مفاوضات سد النهضة التي جرت حتى الآن، ظهر جليا غياب الإرادة السياسية لدى مصر لإنجاح العملية التفاوضية، بل حاولت القاهرة فرض مطالبها وشرعنة حصتها الحالية التي استحوذت عليها باتفاق ثنائي مع السودان وغير ملزم لإثيوبيا.
لم تنخرط مصر في المفاوضات بحسن نيبة، و تسعى لشرعنة حصتها الحالية التي استحوذت عليها باتفاق ثنائي مع السودان،
كما انخرطت مصر في المفاوضات بمسارات مزدوج، واعطاء الأولوية لتدويل المسألة بإحالتها إلى مجلس الأمن وتجاوز جميع الآليات الإقليمية وخاصة الاتحاد الأفريقي الذي يعتبر الحاضنة السياسية للدول الإفريقية.
” اتفاق ملزم” … تكتيكات مصرية لترسيخ احتكار مياه النيل
تسعى دولتي المصب وخصوصا مصر الحفاظ على ما يسمونه “الحقوق التاريخية” و”الاستخدام الحالي” بفرض بنود على القواعد التوجيهية للملء والتشغيل السنوي لسد النهضة، كبند تخصيص حصة لهما من نهر النيل الأزرق و تقيد حق إثيوبيا.
وهو ما ترفضه إثيوبيا باعتبار أن تخصيص الحصص يتعلق بتقاسم المياه الذي يمكن من خلال إتفاقية مياه شاملة في إطار آخر، وليس عبر تمريره ضمن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة. و ترفض إثيوبيا الخلط بين مفاوضات سد النهضة وبين الاستخدام المستقبلي وتقاسم مياه النيل الأزرق.
إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاثة الذي يُعتبر الإطار القانوني الوحيد لمفاوضات سد النهضة. وهو لا ينص على ضرورة توقيع اتفاق قانوني يلزم إثيوبيا تمرير كمية محددة لدولتي المصب. بل ينص في البند الخامس على مبدأ التعاون في ملء السد وتشغيله، والسعي للاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد.
تعهدت إثيوبيا بعدم حجز المياه وعدم ملء السد خلال سنوات الجفاف او الجفاف الممتد الذي يؤدي إلى انخفاض منسوب مياه النيل الأزرق الى أقل من ٣٧ مليار متر مكعب من أصل ٤٩ مليار متر مكعب هي معدل منسوب النيل.
لكن مصر تطلب توقيع اتفاق تلتزم فيه إثيوبيا بتغطية العجز من السد خلال سنوات الجفاف والجفاف الممتد، الأمر الذي يعتبر شرط تعجيزيا وعائق أساسيا أمام التوصل لاتفاق مربح للجميع.
تطالب مصر بإدراج بنود تعجيزية في الاتفاقيات الفنية بهدف تسييس المفاوضات وتحويلها إلى منصة لتقاسم مياه النيل حسب رؤيتها
إضافة إلى ذلك تعهدت إثيوبيا بإطلاق مياه السد في حال حدوث جفاف ممتد بعد سنوات الملء كدليل على حسن النية ومبدأ التعاون. وكل هذا مع العلم أن مصر تدرك جيدا أن هذا السد كهرومائي ومياهه تتدفق إلى دول المصب بعد ضرب التوربينات ولا يمكن استخدامها لأغراض أخرى كالري والشرب.
الاتهامات التي توجهها مصر لإثيوبيا بالسعي للأضرار بدول المصب لا تستند إلى أفعال. و اختيار إثيوبيا موسم الأمطار لملء السد يعكس حرصها عدم الاضرار بدولتي المصب، حيث تكون التعبئة من مياه الأمطار دون تأثير على حصصهما.
ورغم استحقاق إثيوبيا لحصتها الطبيعية من نهر ينبع من أراضيها، فإن استخدام مياه الأمطار لملء السد يدحض الاتهامات المصرية ويعكس تصرف إثيوبيا المبني على مبدء التعاون.
علما أن الملء الاول في العام الماضي تم من مياه الأمطار، ولولا حجز تلك الكمية لتسببت الفيضانات بكارثة كبيرة للسودان، رغم ادعاء البعض أن الملء هو سبب غرق المدن السودانية في اتهام غير منطقي.
لو أردات إثيوبيا الإضرار بدولتي المصب لقامت بملء السد من مياه النهر الذي تتمتع بحق قانوني وطبيعي للاستفادة منه، لكنها تصر على الملء خلال موسم الأمطار لتفادي أي ضرر معتبر
السد الذي كان من المفترض أن يكون جسر التواصل والتنمية المستدامة بالتكامل الاقتصادي بين دول المنطقة حولته سياسة مصر الاقصائية المبنية على نظرية الملكية المطلقة لها في نهر النيل ودول المنبع حراس على هذا النهر، إلى ملف للتوترات في الإقليم.
لا يحتاج الأمر إلى كل هذه الجولات التفاوضية والوساطات، بل يمكن التوصل إلى اتفاق مربح للجميع بمجرد إقرار مصر بأحقية إثيوبيا في التنمية، والإيمان بمبدأ الاستخدام العادل و المنصف والمناسب، والاتفاق على قواعد الملء والتشغيل والتخلي عن ما يسمى الحقوق التاريخية المكتسبة من خلال إتفاقية ظالمة على حساب دول المنبع.