ظهرت قضية إقليم بني شنقول على السطح في الآونة الأخيرة بسبب تداعيات أزمة سد النهضة الإثيوبي، ولشح المعلومات حول الإقليم وربما لخصوصيتها من الناحية الجغرافية والإثنية التي يتميز بها عن بقية أقاليم إثيوبيا – باستثناء إقليم غامبيلا – أصبح الإقليم مادة إعلامية خصبة لاختلاق تاريخ جديد للمنطقة بشكل يخدم مصالح الأطراف المتنازعة حول السد، علها تكون ورقة ضغط للمساومة في المستقبل، وهكذا بالفعل كان الاتجاه الذي دفعت البيانات الصادرة من القاهرة والخرطوم بما يخص الإقليم، ولعل تصريحات وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي وكذلك تصريحات د. محمد محسوب وزير الدولة للشئون القانونية والمجالس النيابية التي ربطت بين اتفاقية ١٩٠٢ ” الاتفاقية الأنجلو-إثيوبية ” وبين إثيوبية الإقليم خير دليل على ذلك. (( بيان وزارة الخارجية السودانية في ٣٠ أبريل ٢٠٢١ ، https://cutt.us/gSm3y ، و لقاء د. محمد محسوب، وزير الدولة للشئون القانونية والمجالس النيابية على الجزيرة مباشر في ١٢ يوليو ، https://cutt.us/Hea3N اليوتيوب))
لذا وجب أن توضح تاريخ إقليم بني شنقول قبل وأثناء ١٩٠٢ بالوثائق والأدلة، ساعين من خلال ذلك فك الارتباط بينهما حتى نعيد العقلانية في إداراة النزاع بين الأطراف المختلفة.
الموقع الجغرافي والتكوين السكاني
يقع إقليم بني شنقول – غُمز على الحدود الغربية لإثيوبيا وتحديدا عند سفوح الهضبة الشمالية، ويحده من الشمال والشمال-شرق إقليم أمهرا، ومن الجنوب وجنوب شرق إقليم أوروميا، بينما يحده من الغرب السودان.
تبلغ مساحة الإقليم ٥٠ ألف كيلومتر مربع، وعاصمته هي مدينة أصوصا. و يعتبر الإقليم منخفضا مقارنة بالأقاليم المحاذية، وإن كان يبلغ معدل ارتفاعه ١٥٠٠م فوق مستوى سطح البحر.
ويمر نهر أباي (النيل الأزرق) من خلال الإقليم من الشرق إلى الغرب ويقسمه إلى ضفة شمالية وجنوبية.(( وكالة الإحصاء المركزي الإثيوبي، https://cutt.us/DR9Ah ))
إداريا كان الإقليم مقسما بين محافظتي غوجام وولغا في غرب إثيوبيا طوال العهود السابقة، ولكن تم منح المنطقة حق تكوين إقليم خاص، على ضوء دستور ١٩٩٥ الذي أعطي قوميات إثيوبيا حق تكوين أقاليم تتمتع بحكم ذاتي، وفقا لنظام لفيدرالية الإثنية.
وحاليا يضم إقليم بني شنقول، ثلاثة محافظات هي: أصوصا، كماشي، متيكل، أما تاريخيا فالإقليم كان أرضا لمشيخات قديمة مثل مشيخة بني شنقول وأقولدي وخوموشا بالإضافة إلى مشيخة غوبا. (( https://cutt.us/gBZ3t ))
أما من الناحية الديموغرافية، يبلغ عدد سكان الإقليم مليون ونصف نسمة، وهم غير متنجانسين من الناحية الإثنية، حيث ينتمون لعدة قبائل أو عرقيات مختلفة كقومية البرتا والغومز والقواما والشيناسا.
ويمثل البرتا أكبر هذه القوميات عددا حيث تشكل حوالي ربع سكان الإقليم، تليها قومية الغوموز، وهذه القبائل تنضوي ضمن شعوب “النيلو-صحراوية” التي لها امتداد في السودان وجنوب السودان وتشاد والنيجر وكينيا وشعوب الأمو التي تتواجد في الجنوب الإثيوبي.
و بالإضافة إلى القبائل الأصلية يوجد في الإقليم قوميات هاجرت من المناطق المجاورة لغرض العمل مثل الأمهرا والآغاو والأورومو.(( https://cutt.us/QqIXh ))
الخلفية التاريخية لإقليم بني شنقول
تاريخ المنطقة قبل القرن التاسع الميلادي فقير نظرا لشح المعلومات مقارنة بالمناطق المجاورة، ولعل ابن حوقل النصيبي هو أول من ذكر هذه المنطقة في كتابه صورة الأرض حينما تحدث عن حدود النوبة والحبشة، وذكر أن سكان تلك المناطق لا دين لهم أو شريعة وليس لأحد طاعة عليهم. (( أبو القاسم محمد بن حوقل النصيبي، كتاب صورة الأرض – بحر فارس ، صفحة ٦١، ٦٢ ))
لذا فأغلب التاريخ المكتوب عن المنطقة يعود مصدره بشكل رئيس إلى التراث الشفهي لتلك الأقوام أو لكتابات المستشرقين و الرحالة الذين وفدوا إلى المنطقة نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ولشح المعلومات عن هذه الأرض سميت في أدبيات المؤرخين ب “الأرض الخالية “No Man’s Land – أرض اللا إنسان! (( Alessandro Triulzi: Salt, Gold and Legitimacy, Prelude to the history of a no-man’s land Bela Shangul, Wallagga, Ethiopia (ca. 1800-1898 ))
ولعل أول رحالة أوروبي ذكر منطقة بني شنقول هو الأسكتلندي جيمس بروس وذلك في عام 1772م (( James Bruce: Travels to Discover the Source of the Nile, In the Years 1768- 1773 ))
ولكن رغم قلة المعلومات وندرتها عن المنطقة إلا أن الإشاعات المرتبطة بها كانت تدور حول وجود المعادن النفيسة كالذهب والفضة أو ووفرة العبيد فيها، وهو ما جعلها محط أنظار الجميع، كانت هذه الأخبار المتقطعة كافية لجذب اهتمام الوالي محمد علي باشا في مصر، فبعد أن قام الوالي بحملة لفتح السودان بداية عشرينات من القرن التاسع عشر ونجاحه في ضم سلطنة سنار في السودان إلى حكمه بين ١٨٢٢-١٨٢٣ (( Arthur E. Robinson: The Conquest of the Sudan by the Wali of Egypt, Muhammad Ali Pasha, 1820-1824. Part II ))
شن محمد علي باشا حملة على على الأرض الخالية No man’s land ، وبعث العديد من الرحالة والمستكشفين إلى شرق سنار وجنوبها بغرض البحث عن بريق الذهب ولاكتشاف منابع النيل وتأمينه. (( Bahru Zewde: Relations between Ethiopia and the Sudan on the Western Ethiopian Frontier 1898-1935 , P.21 ))
لم تواجه حملة محمد علي باشا أي صعوبة تذكر في الاستيلاء على تلك المناطق، نظرا للفارق الكبير بين تسليح الحملة وبين القوة البدائية لأهالي تلك المنطقة، كما لم يجد الوالي صعوبة في تحقيق أهدافه من الحملة المصرية على المنطقة وهو الذهب والرقيق، فكانت منطقة بني شنقول وكوموشا تصدر ما يقارب ٤٠٠٠ رطل ( حوالي ١٨٠٠ كغ ) من الذهب الخالص سنويا وللوالي مباشرة بالإضافة إلى الكثير من الرقيق. ((ibid, P.21))
الهجرات إلى الإقليم
بدأت الهجرات إلى المنطقة منذ وقت قريب نسبيا وعلى موجتين كبيرتين. الموجة الأولى كانت من قبيلة “البرتا” التي تعتبر الأكبر عددا في الإقليم. وتشير كتب التاريخ اعتمادا على الموروث الشفهي للبرتا، أنهم قد انتقلوا من الغرب – أي من السودان الحالي – وتحديدا من المنطقة الجبلية الواقعة في جنوب سنار والتي تسمى “جري” ، إلى تلال المنطقة التي يسكنونها الآن في بني شنقول، وذلك تقريبا في الفترة ما بين القرن ١٧ و١٨ (( Atieb Ahmed Dafalla, Sheikh Khojele Al-Hassan and Bela-Shangul (1825-1938), B.A dissertation (HSIU, 1973), P.2)) ، وذلك بسبب الحروب الأهلية التي وقعت في سلطنة سنار بين أهم مكوناتها وهي الهماج والفونج، وأيضا بسبب هجمات تجار الرقيق من قبائل الشكرية السودانية. ، واختيارهم السكن في تلك التلال أكسبهم لقب الجبلاويين. (( Zewde, (no. 10), Gérard Prunier,Eloi Ficquet: Understanding contemporary Ethiopia Monarchy, Revolution and Legacy of Meles Zenawi ))
هذه الموجة الأولى لم تحدث مرة واحدة بل كانت على شكل عدة أفواج متعاقبة، وهو السبب الرئيس لعدم ارتباط الجبلاويين ببعضهم البعض ضمن وحدة سياسية واحدة، في حين أن سكان المنطقة الأصليين في تلك الفترة قبل مجيء البرتاويين المهاجرين كانوا من قوميتي القواما والماو، الذين تم إزاحتهم مع مرور الوقت جنوبا وشرقا.(( Abdussamad H. Ahmad: Trading in Slaves in Bela-Shangul and Gumuz, Ethiopia: Border Enclaves in History, 1897-1938.))
أما الموجة الثانية من الهجرة فكانت بعد سقوط سلطنة سنار في السودان في ١٨٢١ – ١٨٢٣ وأدت حادثة حرق قائد الحملة المصرية إسماعيل كامل باشا الابن الثالث لمحمد علي باشا في شندي ١٨٢٢. (( https://cutt.us/QDmW2Encyclopedia Britannica 1911.)) إلى فرار العديد من التجار والأعيان العرب من سلطنة سنار والاتجاه جنوبا إلى منطقة بني شنقول والمناطق المقابلة لها من جهة السودان، و التي تسمى بفازوغلي، ودخلوا على شكل جلابة وفقراء. (( Zewde (no. 10) P. 16))
والجلابة هم التجار باللهجات السودانية الذين اشتغلوا بتجارة جلب العبيد، ومنها اشتق اسم الزي ” الجلابية ” المشهورا في أوساطهم آنذاك ومازال. والفقراء هم المشايخ ورجال الدين الذين اشتغلوا في تعليم الدين والقرآن للعامة، واستقرت هذه الفئة الوافدة في وسط سكان البرتا الجبلاويين وتصاهروا معهم، ونتيجة لهذا التصاهر تكونت فئة اجتماعية جديدة سميت بالوطاويط ((
Binayew Tamrat Getahun, Alemseged Debele Tsega: Centre- Periphery Relations in
Ethiopian Empire: The Case of Benishangul Gumuz, 1898 – 1941, معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية، لأحمد تيمور. الجزء الأول، حرف الجيم، صفحة ٤٢ ))
وتمكن الوطاويط خلال فترة وجيزة من تصدر الساحة السياسية في المنطقة، ويذكر التاريخ أن أول حاكم عربي من الوطاويط حكم المنطقة هو الفضلي، وهو ابن التاجر يعقوباب وابن بنت إدريس أحد ملوك الجبلاويين الذين يلقبون محليا ب” المك “، والفضلي هو جد الأكبر لعبدالرحمن خوجلي المعروف بلقب تور الغوري الذي سنأتي على ذكره لاحقا.(( Dafalla (no. 12) P. 7-9))
الإقليم والمتغيرات السياسية في مصر والسودان
كانت الأوضاع في بني شنقول مستقرة في الفترة ما بين ١٨٢٠- ١٨٨٠، وملجأ لكل من تأثروا سلبا من تبعات التغيير السياسي الكبير الذي حدث في السودان نتيحة سقوط سلطنة سنار وضم السودان لمصر التي كانت ولاية عثمانية – اسما – آنذاك، إلى أن وقع حدثين مهمين متتاليين غيرا من استقرار المنطقة بشكل كبير.
الحدث الأول هو عزل الخديوي إسماعيل وتنصيب ابنه الخديوي توفيق مكانه في ١٨٧٩، وهو ما أثار حفيظة الوطنيين في كل من مصر والسودان مثلما حدث في ثورة عرابي باشا، التي دفعت بالخديوي الجديد طلب المساعدة من الإمبراطورية البريطانية. والحدث الثاني هو قيام الشيخ محمد أحمد “المهدي” بالثورة ضد الحكم المصري-التركي في السودان في ١٨٨١ (( https://cutt.us/EFkml))
نجحت ثورة المهدي في النصف الأول من ثمانينيات القرن التاسع عشر في اكتساح أغلب الأراضي السودانية الحالية وقتل الحاكم البريطاني جورج غوردون ((Ibid ))، وهو ما شجع ملك الحبشة آنذاك في مراسلة المهديين لمعرفة نواياهم في بداية الأمر (( الحرب الحبشية السودانية 1885-1888 (الطراز المنقوش ببشرى قتل يوحنا ملك الحبوش)، صفحة 11)).
ولكن بسبب التسوية التي تمت بين الحبشة ومصر والتي نصت على تنازل مصر عن بعض المناطق التي احتلتها في الحبشة مقابل انسحاب الجيش المصري من القلابات التي كانت تعتبر ثغر السودان المطل على الحبشة، أدت إلى حدوث مناوشات ومماحكات بين الإثيوبيين والمهديين انتهت بالمواجهات الواسعة بين الطرفين وسقوط غوندار -عاصمة الحبشة- في ١٨٨٨ و مقتل الملك يوحناس في معركة القلابات في ١٨٨٩ (( https://cutt.us/4QvBj))
أثارت ثورة المهديين موجة من التعاطف والحماس في صفوف مواطني قومية البرتا في منطقة بني شنقول، ولم يجد المهديون في بداية الأمر أي صعوبة في بسط نفوذهم في تلك الناحية، لذا اتسع نطاق المواجهات بين الحبشة والمهديين، فلم تقتصر على الجزء الشمالي من الحدود الإثيوبية – السودانية الحالية مثل المتمة والقلابات وكسلا، بل امتدت إلى بني شنقول التي أصبحت مسرحا لمواجهات عسكرية بين الطرفين. ولعل أبرز المعارك التي حدثت في المنطقة كانت معركة جتي ديلي في ١٨٨٨ التي قادها راس غوبانا وليقا نيقامت ضد المهديين والتي انتهت بانتصار الحبشة.((Alessandro Triulzi: Trade, Islam, and the Mahdia in Northwestern Wallaggā, Ethiopia. P. 68))
تبعات هذه المعركة بالإضافة إلى عوامل أخرى في داخل دولة المهديين كالمجاعة في انتشرت في السودان في ١٨٨٨ نتيجة ضعف محاصيل الحصاد، بالإضافة هزيمتهم في معركة توشكي في العام اللاحق ١٨٨٩ ، جعلت المهديين يقومون من خلال عاملهم في بني شنقول خليل الخزاني بفرض الجزية على أبناء البرتا وهو ما رآه البرتاويين إهانة بالغة لهم، فالجزية في الإسلام كما هو معلوم هي ضريبة تفرض على غير المسلمين من الرعايا.
أدى ذلك إلى امتناع العديد من قادة البرتا مثل عبدالرحمن الغوري عن دفع الجزية لأم درمان حاضرة دولة المهديين آنذاك ((Zewde (no. 10) P. 22))، وكان هذا العصيان بداية لانحسار نفوذ المهديين عن منطقة بني شنقول لصالح القادة المحليين من البرتاويين، الذين كان أبرزهم: عبدالرحمن الغوري، الخوجلي حسن، ومحمد ود محمود. ((Ahmed (no. 15) P. 435))
نجح الشيخ عبد الرحمن الغوري من إقامة حلف يضم قيادات البرتا الثلاثة لتشكيل نواة سياسية لإدارة المنطقة، ولكن اختلاف أهدافهم وتحالفاتهم بين الحبشة والمهديين، أدى إلى انهيار الحلف بعد فترة وجيزة في ١٨٩١، فتحالف الشيخ محمد ود محمود مع الأمير خليل الخزاني أحد قادة المهديين للهجوم على المنطقة وأسر الحسن وابنه الخوجلي وسجنهم في أمدرمان، وهو ما دعى الخوجلي للتحالف مع الحبشة بعد الخروج من السجن، وعلى إثر تحالفه مع الحبشة قاد راس مكونن القائد العسكري الأبرز في الحبشة آنذاك حملة لإخضاع كل من مشيخة عبد الرحمن الغوري ومحمد ود محمود في ١٨٩٦، ونجحت حملته في بسط سيادة الحبشية على كافة أرجاء منطقة بني شنقول مع حلول عام ١٨٩٧. ((
von Alexander Meckelburg: From “Subject to Citizen”? History, Identity and Minority Citizenship: The Case of the Mao and Komo of Western Ethiopia))
توسعات منليك والقوة المعنوية البريطانية
لم تتوقف حملات الإمبراطور منليك الثاني عند حدود مشيخات بني شنقول فقط، ففي العام التالي ١٨٩٨ أرسل منيليك أربع حملات عسكرية داخل أراضي السودان المصري- الإنجليزي باتجاه شمال-غرب و جنوب-غرب الحبشة، بهدف الوصول إلى النيل الأبيض وتأمين منطقة الدلتا التي يلتقي فيها النيل الأزرق والأبيض، فوصلت الحملات إلى لادو وفاشودة، ورفع العلم الإثيوبي في الروصيرص. ((K. V. Ram: ANTECEDENTS TO THE SUDAN-ETHIOPIA BORDER NEGOTIATIONS AND THE AGREEMENT OF MAY 1902))
من ناحية أخرى وفي أثناء سعي البريطانيين الحثيث باتجاه أمدرمان، وعلى وقع الأخبار المتعلقة بالتوسعات الغربية لمنليك الثاني، وعلاوة على هزيمة الإيطاليين في عدوة العام الماضي ١٨٩٦م على يده، رأى البريطانيون ضرورة التوصل إلى اتفاق لرسم الحدود بين الإمبراطوريتين حتى لا تصطدم بريطانيا في حرب مباشرة مع إثيوبيا قد تكون نتيجتها مخزية مثل هزيمة عدوة.
لذا أوفدت بريطانيا مبعوثها الدبلوماسي جيمس رينل رود إلى أديس أبابا للتفاوض مع إثيوبيا لرسم الحدود ولضمان حياد الإمبراطور في الصراع البريطاني-الفرنسي في أعالي النيل ((Ibid. P. 57)). ونتج عن هذه المفاوضات أن تم رسم الحدود الشرقية لإثيوبيا مع المحمية البريطانية في صوماليلاند ( الصومال الإنجليزي) والتي سميت لاحقا باتفاقية رود ١٨٩٧ ((EDWARD ULLENDORFF: THE 1897 TREATY BETWEEN GREAT BRITAIN AND ETHIOPIA.))، بينما رأى اللورد رود فيما يخص الحدود الغربية لإثيوبيا أن يتم تأجيل التفاوض فيها، لأنه لا يمكن التفاوض مع منليك الثاني الذي يتقدم عسكريا على الأرض باتجاه الغرب، إلا بعد أن تنال بريطانيا قوة معنوية على الأرض في السودان المصري، ولن يتم ذلك إلا عن طريق هزيمة المهديين وإسقاط أمدرمان.(( Ram (no. 28) P. 47))
في العام التالي وتحديدا في الثاني من سبتمبر ١٨٩٨، تمكن البريطانيون من هزيمة المهديين في معركة كرري – شمال أمدرمان – ودخول العاصمة وإسقاط دولتهم، بعدها دخلت بريطانيا في سباق مع الزمن لإسقاط أكبر قدر ممكن من الحواضر والمدن الشرقية في السودان المصري حتى يكون لها قوة على الأرض تستطيع بها التفاوض مع منليك الثاني، فتمكنت القوات البريطانية من هزيمة القوات المهدية المتبقية في الغضارف بقيادة الأمير أحمد فضل في أكتوبر ١٨٩٨ وضمها بالكامل في نوفمبر، ثم اتجهت جنوبا واحتلت سنار والروصيرص ثم فازوغلي، عندها أنذرت القوات البريطانية الإمبراطور منليك من الاستمرار في التقدم باتجاه الغرب. (( Ram (no. 28) P. 48, https://cutt.us/yBMvw))
مفاوضات بريطانيا مع الإمبراطزر منيليك
بعد اكتساب القوات البريطانية القوة المعنوية وترجمتها على الأرض من خلال بسط سيطرتها على أغلب أراضي السودان المصري في ١٨٩٩، رأت بريطانيا أن الوقت قد حان للجلوس إلى طاولة المفاوضات والوصول إلى تسويات مع إثيوبيا بشأن الحدود الغربية، فقام الحاكم البريطاني في مصر اللورد كرومر بتكليف المستشار الدبلوماسي في زيلع – صوماليلاند – السير جون لين هارينتون للسفر إلى أديس أبابا وبدء المفاوضات المتعلقة بالحدود الإثيوبية – السودانية مع الإمبراطور.((Edward Coltrin Keefer: The career of Sir John L. Harrington: Empire and Ethiopia 1884-1918)) و شدد اللورد على هارينتون الالتزام بإطارين للتفاوض: الحفاظ المصالح المائية لمصر ونهر النيل، وذلك للحفاظ على قدرة مصر الإنتاجية في زراعة القطن الذي تتحكم به بريطاني ، و بسط السيادة البريطانية على جميع الأراضي السودانية التي امتلكتها مصر قبل الثورة المهدية.
توصل الطرفان بعد عدة جولات من المفاوضات إلى توقيع اتفاقية الأنجلو-إثيوبيا في الخامسة عشر من مايو ١٩٠٢، وتم فيها الاتفاق حول الحدود الإثيوبية-السودانية ومياه النيل، مع العلم أن الحدود في اتفاقية ١٩٠٢ هي مجرد تعديل على اتفاقية الأنجلو-الألمانية السابقة في ١٨٩٠، فخط الطول الذي رسم الحدود الإثيوبية-السودانية وهو ٣٥ شرق غرينيتش لم يتغير في كلا الاتفاقيتين. ((nglo-German Protocol 1890 and Anglo- Ethiopian Agreement 1902))
أثبتت الوثائق البريطانية والإثيوبية على حد سواء(( FO 1/34 Mr Harrington Diplomatic and Treaty.)) بسط الإمبراطورية الإثيوبية سيادتها على إقليم بني شنقول قبل اتفاقية ١٩٠٢((
في إحدى الوثائق التي تؤكد ممارسة السلطة على الأرض الإمبراطور منليك الثاني يمنح حق التنقيب في بني شتقول لشركة السيد جورج وليام لين لى أن تكون مدة الترخيص أربعة سنوات. نص الوثيقة: أنا، منليك الثاني، ملك ملوك إثيوبيا، ممثلا نفسي وولي عهدي، إلى السيد جورج وليام لين وإلى مرافقيه الإنجليز من مدينة لندن، قد أعطيت التصريح في هذه الرسالة (ينفذ بناء عليه).
أ) أعطيت التصريح للسيد لين في البحث عن الذهب والفضة وأي شيء آخر قابل لاستخراجه من الأر في كل بلاد بني شنقول، لمدة أربعة سنوات، والسنوات الأربع المذكورة تبدأ مع بدء الحفريات. ب) إذا تشاجر العمال في شركة السيد لين، فالرجل التي ستعينه الشركة هو من سيقوم بحل النزاع ومعاقبة المخطئين، ولكن في حالة القتل، فإن الإمبراطور بنفسه سيبت في الأمر. كتبت في أديس أبابا في السابع عشر تهساس 1892 الموافق ل الخامس والعشرين من ديسمبر 1899 ، أنا السيد لين، قبلت هذا التنازل من الإمبراطور منليك الثاني، وللتأكيد قبولي سأرفق توقيعي ج. و. لين الشهود: ألفريد، ه.ب. ويذروول )).
فسياسة “الحوزة على الأرض” التي اتبعها منليك كان لها الدور الأكبر في رسم الحدود الإثيوبية-السودانية وليس التنازل أو الاقتطاع كما يروجه الآن الاعلام العربي للأسف الشديد، وهو ما جعل التسوية الحدودية بين إثيوبيا وبريطانيا فريدة من نوعها مقارنة بالتسويات الحدودية الأخرى، كما قال المؤرخ فيكي رام .(( Ram (no.28) P. 1))
الخاتمة
الربط بين قضية بني شنقول واتفاقية ١٩٠٢ ينم عن جهل شديد بتاريخ بني شنقول وعن ملابسات ضم الإقليم للتاج الإثيوبي في ١٨٩٧ قبل اتفاقية الأنجلو-إثيوبية بخمس سنوات، وكيف أن الإمبراطور استخدم سياسة “الحوزة على الأرض” لتوكيد رؤيته لخارطة إثيوبيا التي أعلن عنها في ١٨٩١، وقد نجح في بعض منها مثلما في بني شنقول ولكنه فشل في توكيد سيادته في الأراضي التي اكتسبها قبل الاتفاقية نتيجة لللجوء القوات البريطانية لاستخدام مبدأ القوة المعنوية على الأرض وهي صورة مطابقة لمقاربة منليك الثاني.
لذا فالأجدر أن تكون السياسات الخارجية لدول المنطقة مبنية على المعلومات والوثائق، بدلا من اعتماد ما تتناقله منصات التواصل الاجتماعي التي ترتع فيها ظاهرتي الشعبوية وتزييف التاريخ وإعادة تفسيره بطريقة متعسفة جدا دون الوقوف على حقيقة الأمور، وهذا مؤشر لابتعاد مسؤولي المنطقة عن العقلانية والواقعية في إدارة الأزمات.