على ضوء مؤتمر برلين،(1884-1885) الذي تقاسم فيه الرجل الأبيض إفريقيا أرضًا وشعبًا، وقعت الإمبراطورية الإثيوبية والمملكة المتحدة والمملكة الإيطالية عدد من الاتفاقيات رسمت الحدود الإثيوبية الحالية مع دول القرن الأفريقي بالإضافة إلى السودان وكينيا، وتضمنت بعض تلك الاتفاقيات بنودا حول نهر النيل .
أولى هذه الاتفاقيات المتعلقة بنهر النيل ، كانت اتفاقية إنجلو- إثيوبيا التي أبرمها الطرفان في مايو 1902 لرسم الحدود بين إثيوبيا والسودان الذي كان تحت الحماية البريطانية.
وشملت الاتفاقية خمسة بنود، وخصص البند الثالث منها لنهر النيل، وينص على : “يوقع الإمبراطور منليك الثاني ملك ملوك إثيوبيا اتفاقا مع حكومة صاحب الجلالة البريطاني في أن لا يشيد أو يسمح بإنشاء أي عمل على نهر النيل وبحيرة تانا أو نهر سوباط من شأنها أن توقف تدفق مياهها وصبها في نهر النيل من غير اتفاق مع حكومة صاحب الجلالة البريطاني أو حكومة السودان – البريطاني-المصري “
اتفاقية 1902 نصت على عدم القيام بمشاريع تمنع التدفق الطبيعي لمياه البحيرة طانا إلى نهر النيل
وفي 1904م أمر الحاكم البريطاني العام لمصر اللورد كرومر سفير المملكة المتحدة في إثيوبيا السير جون هارينغتون بالدخول في مفاوضات مع الإمبراطور منليك الثاني، وتقديم عرض مالي يقدر بعشرة آلاف جنيه إسترليني كمكافأة سنوية للإمبراطور أو لمن يخلفه طالما استمرت العلاقات الصديقة بين الحكومتين، وتم رفع قيمة المكافأة مع استمرار المفاوضات لاحقا، ولكن الإمبراطور منيليك لم يقبل أو يرفض العرض، بل طالب بإضافة بند توضيحي لاتفاقية 1902م خصوصا في البند الثالث المتعلق بالنيل.
في المفاوضات اللاحقة المتعلقة بتقديم شروحات للبند الثالث من اتفاقية 1902م، طلب ممثل المملكة المتحدة في أديس أبابا السيد كلارك من الحاكم البريطاني العام لمصر تقديم أي اعتراضات من جانبه بخصوص عرضه للإمبراطور الإثيوبي والتي شملت بعض الضمانات والشروحات وتوكيده بأن الاتفاقية لا تتدخل في الحق الإثيوبي في الانتفاع من مياه النيل في الداخل الإثيوبي، فكان رد الحاكم للسيد كلارك بأن يشرح للإمبراطور أن اتفاقية 1902م لا تتدخل في حق إثيوبيا بالانتفاع الداخلي.
لكن الجدير بالذكر هو أن بعد اتفاقية 1902م مباشرة تقدمت بريطانيا مرارا بعرض للحكومة الإثيوبية لإقامة سد على بحيرة تانا، وذلك للتقليل من الأضرار الناتجة عن الفيضانات ولتأمين حصة مياه إضافية لمصر والسودان في الصيف، إلا أن هذا العرض جوبه بالرفض من الحكومة الإثيوبية!
شروحات وملاحق اتفاقية 1902 أكدت عدم التدخل في انتفاع إثيوبيا بمياه النيل، وبريطانيا تقدمت بعروض لإثيوبيا لإقامة سد على بحيرة تانا، للتقليل من أضرار الفيضانات ولتأمين المياه لمصر خلال موسم الجفاف
ولاحقا وبعد عقدين من تاريخ توقيع اتفاقية 1902م أصبحت تلك الاتفاقية بحكم الملغي والغير معمول بها لعدة أسباب أهمها:
1- لم تدرج اتفاقية 1902م ضمن سجلات الاتفاقيات والمعاهدات التي اعترفت بها عصبة الأمم في ذلك الوقت، وحتى مع حل عصبة الأمم وقيام منظمة الأمم المتحدة، نص البند الأول من قوانين الأمم المتحدة فيما يتعلق بتسجيل المعاهدات والاتفاقيات السابقة على إنشاء المنظمة، بأن تسجيل تلك المعاهدات لن تتم إلا بموافقة كل الأطراف التي وقعت تلك المعاهدات.
2- في الرابع عشر من ديسمبر 1925م وقعت المملكة المتحدة اتفاقية سرية مع الحكومة الفاشية في إيطاليا، اعترفت الأولى بموجبها أن إثيوبيا هي منطقة مصالح إيطالية وأكدت بدورها إيطاليا اعترافها بالحقوق المائية لكل من مصر والسودان، وأنها لن تقيم أي منشآت على الروافد المائية التي من شانها أن تحول مجرى الروافد أو تحول دون صب مياهها في النيل الأزرق.
اتفاقية 1902 لا يعتد بها حسب القانون الدولي لأنها لم توضع في سجل الأمم المتحدة للاتفاقيات والمعاهدات الدولية
وفي عام 1938م اعترفت المملكة المتحدة بالغزو الإيطالي لإثيوبيا، وهو ما يعني أن اتفاقية 1902م وملحقها – اتفاقية 1904م – قد أصبحت لاغية من الطرف الإثيوبي.
توقيع بريطانيا اتفاقا مع إيطاليا خلال غزوها لإثيوبيا، يعني ابطال اتفاقية 1902 من قبل بريطانيا
وفي كل الأحوال، كانت اتفاقية 1902م تمت بين إثيوبيا وبريطاني، ولم تكن مع مصر والسودان، وهو ما يعني بأن العمل بالاتفاقية توقف قانونيا مع استقلال مصر والسودان.
مصر والسودان اتفقايات ثنائية لا تلزم إثيوبيا
في المقابل، وقعت مصر مع حكومة السودان البريطاني-المصري في عام 1929م اتفاقية كان أهم بنودها:
1- حصة مصر هي ثمانية وأربعين مليار متر مكعب من مياه النيل في مقابل أن حصة السودان هي أربع مليارات متر مكعب.
2- أن تكون مياه النيل في موسم الجفاف بين شهري يناير ويوليو من حصة مصر.
3- لمصر الحق في مراقبة تدفق المياه في دول المنبع.
4- لمصر الحق في إقامة المشاريع المائية على نهر النيل دون الرجوع إلى موافقة بلدان المنبع.
5- لمصر الحق في رفض المشاريع المائية التي من شأنها أن تؤثر على مصالحها سلبا.
بعد تحرير إثيوبيا من الغزو الإيطالي ( 1936 – 1941م ) حاولت أديس أبابا التوصل مع مصر عدة مرات لانجاز اتفاق مائي، إلا أن القاهرة أصرت على تمثيل موقف السودان، مما حال دون التوصل لاتفاق مباشر بين الدولتين، لذا آثرت إثيوبيا أن تبرم اتفاقا جديدا بعد نيل السودان لاستقلاله.
حاولت إثيوبيا التوصل لاتفاق مائي مع مصر في الأربعينات، لكن القاهرة فضلت الاتفاق مع السودان على حدى
إلا أن موقف السودان بعد الاستقلال – 1956م – كان متماهيا إلى حد كبير مع الموقف المصري، ما أسفر عنه اتفاقية 1959م والتي قدرت حصة مصر بخمس وخمسين ونصف مليار متر مكعب بينما حصة السودان هي خمسة عشر ونصف مليار متر مكعب مع تقدير نسبة تبخر المياه بعشر مليارات متر مكعب، دون أي حصة تذكر لدول المنبع !